بسم
الله الرحمن الرحيم
[ إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ
بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا
هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ
حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) .
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ
مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ
بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ُيصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَه فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) .
ألا وإن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدي
هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل
بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
عباد الله ، يقول الله - جلّ جلاله - : (
يَـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .
أيّها المسلمون ؛ يأمر الله جميعَ عباده بقوله لهم
: ( يَـٰأَيُّهَا
ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ) ، يأمرهم بعبادته ،
بتوحيده وطاعته ، بإخلاصِ الدّين له ، بأن تكونَ كلّ عباداتهم لربّهم خالصةً ، لا
يشركون مع الله غيرَه في أيّ نوع من أنواع العبادة ، فإنّ العبادةَ هي أعظمُ واجبٍ
على العباد ، عبادة الله بتوحيده - جلّ وعلا - وصرفِ كلّ أنواع العبادة له ، وأن
لا يشرَك معه غيرُه في أيّ نوع من أنواع العبادة .
فالتّوحيد أعظمُ الواجبات ، أعظمُ واجبٍ على العبد
توحيدُه لله ، وإخلاصه الدينَ له ، فإنّ الله إنّما خلق الخلق لهذا ، ( وَمَا خَلَقْتُ
ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا
أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ) ، فما خلق الله الثقلين جنَّهم وإنسَهم ؛ إلاّ لأجل
غاية واحدة هي عبادتُهم له - جلّ وعلا - بإخلاصِ الدين له ، وإفراده بجميع
أفعالِهم من دعاء ، ورجاءٍ ، وذبح ، ونذر ، وغير ذلك من أنواع العبادة ، فتتألّه
قلوبُهم ربَّ العالمين محبَّةً ، وخوفًا ، ورجاءً .
ولأجل هذا التوحيد أنزل الله كتبه ، ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـٰتُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ ٱللَّهَ .. ) .
ولأجل هذا التوحيد أنزل الله كتبه ، ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـٰتُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ ٱللَّهَ .. ) .
( تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ
ٱلْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ
مُخْلِصًا لَّهُ ٱلدّينِ ) .
ولأجله أرسل جميعَ الرسل ليدعوا العبادَ إلى توحيد
الله ، ويعرّفوهم هذا الواجبَ العظيم الذي لأجله خُلِقوا ، ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا
فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ
) ، فالرّسل بُعِثوا للدعوة إلى هذا الأصل العظيم ، فما من أمّة من الناس إلا بُعث
لهم رسول ؛ ليقيم حجَّةَ الله عليهم بدعوتِهم إلى توحيده ، جلّ وعلا .
وأخبر - تعالى - أنّ دعوة الرّسل جميعًا اتّفقت على
هذا الواجبِ العظيم ، فبه افتتَح الرّسل جميعُهم دعوتَهم أممَهم ، قال - تعالى - :
( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا
إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ ) .
هذا التوحيدُ من حقّقه التحقيقَ الكامل فإنّه بفضلٍ
من الله ورحمته يدخل الجنّةَ بغير حِساب ، في حديث عتبان : (( فإنّ الله حرّم على
النّار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجهَ الله )) [ متفق عليه ] .
ويُخرج من النّار في قلبه مثقالُ ذرّة من هذا
التوحيد ، في الحديث : (( يقول الله : أخرِجوا من النّار من في قلبه مثقالُ ذرّة
من إيمان )) [ متفق عليه ] .
هذا التوحيدُ أساسٌ لقبول كلِّ الأعمال ، فالأعمال
كلُّها متوقِّفٌ قَبولها ، واعتبارها على تحقيق هذا الأصل العظيم عبادةِ الله
وحدَه لا شريك له ، قال - تعالى - : ( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ
عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) ، فكلّ أعمالِ المشركين العابدين
غيرَ الله هي يومَ القيامة هباء منثور ، لا اعتبارَ لها ، ولا ميزانَ لها .
وبيّن - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا الأمرَ العظيم ، فقال : ( وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ ) ، وقال عن أنبيائه لمّا عدّهم : ( وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) .
وبيّن - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا الأمرَ العظيم ، فقال : ( وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ ) ، وقال عن أنبيائه لمّا عدّهم : ( وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) .
أيّها المسلمون ، هذا التوحيد أصلُ الأصول الذي
خلِقنا لأجلِه ، أن نعلمَ أنّ العبادة حقّ لربّنا - جلّ وعلا - ، فنفرده بكلّ
عباداتنا محبَّةً له ، وذلاًّ ، وخوفًا منه ، وطمعًا فيما عنده من الثواب .
نعلم حقًّا أنّ ربَّنا خالقُنا ، وخالق السموات
والأرض ، والمتصرّف في كلّ الكون ، حياتُنا بيدِه ، موتُنا بيدِه ، رزقنا بيده ،
مالك النّفع والضرّ ، السميع البصير ، العالم بكلّ شيء ، فهو المستحقّ أن نقصدَه
بالعبادة ، هو المستحقّ إذا لجأنا أن نلتجئ إليه - جلّ وعلا - ، فندعوه وحدَه
لأنّه قريبٌ مجيب ، الذي يقول لنا : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) ، والذي يقول لنا : ( أَمَّن
يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء ) ، والذي يقول لنا : (
ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰخِرِينَ ) .
إذًا فأولئك الذين يدعون غيرَ الله ، ويؤمّلون في
غير الله ، ويعلّقون آمالهم بغير الله إنّهم على غايةٍ من الضلال ، والبعد عن
الهدى ، لماذا ؟
لأنّ هذا الدعاءَ يُصرَف لأموات وغائبين ، لا
يعلَمون حالَ داعِيهم ولا يسمعونه ، ولو سمِعوا ما استجابوا ، قال - تعالى - : (
وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن
تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ ) ، ما بين أمواتٍ
وغائبين ، ما بين جنٍّ وملائكةٍ وغيرهم .
( إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ
وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ ) ، فعسى أن يخلِّصوا أنفسَهم فضلاً أن
ينفَعوا غيرَهم .
وثالثًا : ( وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُونَ
بِشِرْكِـكُمْ ) ، ويتبرّؤون منكم ، ومن عبادتِكم ، ومن دعائِكم لهم ، إذًا أنتم
في غايةٍ من الضلال .
أيّها المسلم ، إنّ المشركَ قد ارتكب ظلمًا عظيمًا
، وجُرمًا كبيرًا ، عبَد غيرَ الله ، وتألّه غيرَ الله ، وأمَّل في غير الله ،
وتعلّق قلبُه بغير الله ، تعلّق بمن ادّعى به الولاية ، أو الصلاح ، أو غيرَ ذلك ،
وكلّ أولئك لا ينفعون داعيَهم ، ولا يسمعون دعاءَه ، ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن
يَدْعُو مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ
وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَـٰفِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ
أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَـٰفِرِينَ ) .
فإذا كان حالُه كذلك ؛ لا يستجيب لي إلى يوم
القيامة ، وهو غافلٌ عنّي مشغول بحاله ، ويومَ القيامة يوم الاحتياج يتبرّأُ منّي
، ومن عبادتي ، فلماذا أعبدُ هذا المخلوق ؟ ! ولماذا أعلّق أملي بهذا المخلوق ،
وأنسى وأنصرِف عن الحيّ القيوم الذي لا تأخذه سنةٌ ولا نوم ؟ ! ( يَسْأَلُهُ مَن
فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ) .
أيّها المسلم ، إنّ محمّدًا صلى الله عليه وسلم
خاتم أنبياءِ الله ورسله ابتدأ دعوتَه لقومه بدعوتِهم إلى توحيد الله ، إلى إخلاص
الدّين لله ، إلى البراءة من كلّ معبودٍ يعبدونه من دون الله ، إلى أن يتركوا ما
كان يعبده أسلافُهم من الأشجارِ والأحجار .
دعاهم إلى أن يقولوا كلمَة الإخلاص : "
لا إله إلا الله " ، دعاهم إلى هذه الكلمة ، أن ينطقَ بها ألسنتُهم ويعملوا
بمقتضاها ، ولمّا فهِموا أنّ هذه الكلمةَ تلزمهم إفرادَ الله بالعبادة ، وترك ما
كانوا عليه من شركهم بالله قالوا : ( أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهًا وٰحِدًا إِنَّ
هَـٰذَا لَشَيء عُجَابٌ ) ، فلم ينطقوا بها تكبُّرًا عنها ، وكراهيةً أن يقولوا
قولاً يناقض ما هم عليه من الباطل والضّلال ، قال - تعالى – عنهم : ( إِنَّهُمْ
كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَ
يَقُولُونَ أَءنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ) ، قال الله : (
بَلْ جَاء بِٱلْحَقّ وَصَدَّقَ ٱلْمُرْسَلِينَ ).
إنّ محمّدًا صلى الله عليه وسلم مكث أكثرَ من عشرِ
سنين ، مهمّتُه تأسيسُ هذه العقيدةِ ، وتثبيتها في النفوس ، والجدالُ عنها ،
والنّضال عنها ، ودحض شبَه المبطِلين ، وردّ أباطيلهم بما أنزل الله عليه من كتابه
العزيز المبيّن لفسادِ تصوّر المشركين وضلالهم .
بيّن الله - جلّ وعلا - لهم في كتابه العزيز أنّ
الأنبياءَ والملائكة وكلّ الأولياء برآء من كلّ من عبَدهم من دون الله ، برآء من
كلّ من جعلهم أندادًا لله ، برآء من كلّ من قصدَهم دون الله ، فهذا عيسى ابن مريم
يقول الله له يومَ القيامة : ( يـاـعِيسَى ٱبْنَ
مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ
ٱللَّهِ ) ، يقول الله له ، وهو أعلم ؛ لكن ليقيمَ الحجّة على أولئك الضالين : (
قَالَ سُبْحَـٰنَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ ) ، أجل ،
إنّه لا حقَّ له في ذلك ، ( إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا
فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ
* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبّى
وَرَبَّكُمْ ) ، فعيسَى قال لقومه : ( اعبدوا الله ربّي وربَّكم ) ، ما قال لهم :
اعبدوني ، ولا اتخذوني إلهًا ، ولا اجعلوني واسطةً بينكم وبينَ الله ، بل قال لهم
: ( اعبدوا الله ربّي وربَّكم ) .
وملائكةُ الرحمن يسألهم الله يومَ القيامة ؛ ليردَّ
على أولئك المتعلِّقين بهم ، يقول الله لملائكة : ( أَهَـؤُلاَء إِيَّاكُمْ
كَانُواْ يَعْبُدُونَ ) ، ماذا يقولون ؟ ( سُبْحَـٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن
دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ )
، فلا علمَ لنا بعبادتِهم ، ولا أمَرنَاهم بذلك ، ولا ارتضَينا منهم ذلك .
هكذا أنبياءُ الله وملائكته وكلُّ من عُبِد من دون
الله ، ( إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ
وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأسْبَابُ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ
ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءواْ
مِنَّا كَذٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَـٰلَهُمْ حَسَرٰتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم
بِخَـٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّار ) .
إذًا أيّها الإخوة ، فتوحيدُ الله فرضٌ على كلّ
مسلم ومسلمة ، أن يعتقدَ أنّ الله وحدَه المعبود ، وأنّ الله وحدَه المقصود ، وأنّ
الله الذي يدعَى ، ويرجَى ، لا يرجَى ، ويدعى غيرُه ، وأنّ كلّ أنواع العبادة يجب
أن تكونَ لله خالصة ، وأنّ أولئك الداعين للأمواتِ ، والصالحين عندَ القبور ،
والطائفين بها ، والذّابحين لها ، والنّاذرين لها ، والمعلّقين بها آمالَهم هم في
ضلالٍ مبين ، وكفرٍ ، وشرك بالله ، ومفارقةٍ لدين الإسلام ؛ لأنّ دين الإسلام
مبنيّ على أن يكونَ الله وحدَه المعبود دون سواه ، فهذا التوحيدُ أعظم حقٍّ لله
علينا ، يقول صلى الله عليه وسلم لمعاذ : (( أتدري ما حقّ الله على العباد ، وما
حقّ العباد على الله ؟ )) قال معاذ : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : (( حقّ الله
على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا ، وحقّ العباد على الله أن لا يعذّبَ من
لا يشرك به شيئًا )) .
أيّها المسلم ، الموحّدون لله لهم الأمانُ يومَ
القيامة ، ولهم الاهتداء التامّ في الدنيا والآخرة ، ( ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ
يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلأمْنُ وَهُمْ
مُّهْتَدُونَ ).
الموحّدون مهما تكن حالهم فمآلهم برحمةِ الله إلى
دخولِ الجنّة ، ( إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) ، أمّا عُبّاد غير الله فالنّار مقرُّهم ، لا يشفَع
فيهم شافع ، ولا ينفعهم أيّ عمل ، قال - تعالى - : ( إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ
بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا
لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) ، فما تنفعهم شفاعة الشّافعين .
المشركون بالله يدّعون أنّ أولئك المعبودين وسائطُ
بينهم وبين الله ، يرفعون إلى الله حاجاتِهم ، ويشفعون لهم عندَ الله ، وهذا من
أعظم الضّلال ، فقد بيّن الله فسادَ ذلك ، وبيّن أنّ شركَهم هكذا ، قال - جلّ وعلا
– عنهم : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ
مُخْلِصًا لَّهُ ٱلدّينِ * أَلاَ لِلَّهِ ٱلدّينُ ٱلْخَالِصُ وَٱلَّذِينَ
ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى
ٱللَّهِ زُلْفَى ) ، هكذا يقولون ، ولمّا كانت دعوًى باطلة ، ودعوًى كاذبة فاسدة ؛
لأنّ الوسائط بيننا وبين الله هم رسلُ الله فيما يبلّغونا عن الله ، ورسول الله
واسطةٌ بيننا ، وبين الله في شرعه ودينِه ، أمّا العبادة فهي حقّ لله ، ولا وساطة
بيننا ، وبين ربّنا في توحيده ، وإخلاص الدّين له .
محمّد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق
، وأفضلُهم ينادي عمَّه العبّاس : (( يا عبّاس ، لا أغني عنك من الله شيئًا .
يا فاطمة بنت محمد ، لا أغني عنك من الله شيئًا. يا صفيّة عمّة رسول الله ، لا
أغني عنك من الله شيئًا )) [ متفق عليه ] ، يعني : إن لم توحّدوه ، وتخلصوا الدّين
له .
وهو صلى الله عليه وسلم دعا
إلى هذا التوحيد ، وحمى حِمى التوحيد ، وأغلق كلّ وسيلة تفضي إلى الشّرك ، فيقول صلى الله عليه وسلم في
آخر حياتِه : (( لعن الله اليهودَ والنصارى ؛ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد )) ،
قال الصّحابة : يحذِّر ما صنعوا ، ولولا ذلك لأبرِزَ قبره . [ متفق عليه ] .
ويقول صلى الله عليه وسلم : (( لا تطروني كما أطرت النّصارى ابنَ
مريم ، إنّما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله)) [ رواه البخاري ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((
صلّوا عليّ ، فإنّ تسليمكم يبلغني أين كنتم )) [ رواه أحمد ، وأبو داود ، وصحّحه
النووي ، وابن حجر ، الألباني ، رحم الله الجميع ] .
فهو لا يرضى أن يُشرَك مع الله في عبادتِه ، إذ
العبادة كلّها لله حقّ ، يأمره الله أن يقولَ : ( قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ
ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا * قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ
أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) ، ( قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ
ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ
مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوء ) ، ويقول الله مبكِّتًا المشركين : (
وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ
يُخْلَقُونَ * أَمْوٰتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ )
، هكذا حَال المعبودين من دون الله .
فكن ـ أيّها المسلم ـ متمسِّكًا بهذه العقيدةِ
السليمة ، مخلِصًا لله العبادة ، عابدًا الله وحدَه ، مخلصًا له دعاءَك ، وذبحَك ،
ونذرك ، ورجاءَك ، وحبَّك ، وخوفك ، وكن على يقينٍ بأنّك عبدٌ لله ، خُلقتَ لتبعدَ
الله وتتقرّب إليه بصالح الأعمال ، وأنّ هذه العبادة لا يستحقّها أيّ مخلوق كائنًا
من كان ، لا ملَكٌ مقرَّب ، ولا نبيّ مرسل ، فضلاً عن أيّ إنسان كائنًا من كان ،
فالله ما خلقك ؛ إلا لتوجِّه قلبَك إليه ، إلاّ ليكونَ هو إلهك ومعبودك ومرجوَّك ،
ليس لك غيره تعالى وتقدّس .
فإذا أخلصتَ له توحيدَك ، وعبدتَه وحدَه لا شريك له
؛ فأنتَ بفضل الله ، ورحمتِه على سبيلِ خير وهدًى ، ويُرجَى لك برحمةِ أرحم
الراحمين دخولُ الجنة مع الأعمال الصالحة التي جعلها الله سببًا لذلك .
واحذَر الشركَ بالله ، واحذَر عبادةَ غير الله ،
واحذر أن تأتيَ قبرًا ، أو تطوفَ به ، أو تدعوَ أهله ، أو تعتقدَ أنّهم ينفعون ،
أو يشفعون ، أو أنّهم يسمعون دعاءَ من دعاهم ، أو أنّهم يكشفون الضرَّ عن أيّ
مضطرٍّ ، أو ينفعون ، أو يجلبون خيرًا ، أو يدفعون ضررًا ، اعتقِد أنّ ذلك باطلٌ ،
وكذب ، وأنّ الكلَّ بيدِ الله ، فهو مالك النّفع والضرّ ، وهو المدعوّ ، والمرجوّ
وحدَه دون ما سواه .
ثبّتني الله وإيّاكم على قولِه الثابتِ في الحياة
الدنيا ، وفي الآخرة .
أقول قولي هذا ، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي
ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب ، فاستغفروه وتوبوا إليه ، إنّه هو الغفور الرحيم
.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما
يحبّ ربّنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدًا
عبده ورسوله ، صلّى الله عليه ، وعلى آله وصحبه ، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم
الدين.
أمّا بعد : فيا أيّها الناس ، اتّقوا الله - تعالى
- حقَّ التقوى ، واستمسكوا منه بالعروة الوثقى .
أيّها الموحِّد لله ، أيّها المسلم الذي أسلم قلبُك
لله ، وعبدتَ الله وحدَه ، ورجوتَه وحدَه ، وخصّصته بكلّ أنواع الطاعةِ والعبادة ،
اسمَع ما وعدك به ربّك على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم ، يقول صلى الله عليه
وسلم : (( من شهِد أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمّدًا عبد الله ورسوله ، وأنّ عيسى
عبد الله ، ورسوله ، وكلمتُه ألقاها إلى مريم ، وروحٌ منه ، وأنّ الجنّة حقّ ،
والنّار حق ؛ أدخله الله الجنةَ على ما كان من عمل )) [ متفق عليه ] .
وفي الحديث [ الآخر ] : (( مَن كان آخر كلامه لا
إله إلا الله دخلَ الجنة )) [ رواه أحمد ، وأبو داود ، والبيهقي ، وحسّنه النووي ،
والألباني ، رحم الله الجميع ] .
فكن ـ أيّها المسلم ـ حريصًا على تحقيق توحيدك ،
حريصًا على البُعد عن الشّرك مهما كانَ حالك ، ولا تغترّ بما ابتُلي به كثيرٌ من
العالِم الإسلامي بهذه الخرافات ، والضّلالات ، والتعلّق بضرائحِ الأموات ،
واعتقادِ أنّ أهلَها يسمعون ، وينفعون ، وأنّهم يشفعون لِمَن دعاهم ، وأنّ لهم
تصرّفًا في الكون ، وأنّ لهم ، وأنّ لهم ..
كلّها من الخرافاتِ ، والأباطيل التي زيّنها
الشّيطان لهم ، وحسّنها لهم ، وحتى ظنّوا أنّها حقّ ، وهي باطل ، يقول الله - جلّ
وعلا - : ( قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ
مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَلاَ فِى ٱلأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن
شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَـٰعَةُ عِندَهُ
إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) ، ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ) ، فهم ( لا
يملِكون مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض ) ، فمَن ليس مالكًا ، وليس شريكًا ،
ولا عَونًا لماذا يُدعَى ؟!
ولماذا يُرجَى؟! ولماذا يقصَد؟!
ولماذا ننسَى الحيّ القيومَ السميع القريبَ الذي لا
تأخذه سِنة ولا نوم ؟!
لماذا ننسى مَن إذا قال للشيء : ( كن فيكون ) ؟!
ولماذا نأتي لتلك الخرافات وإلى أولئك الأموات ؟!
ماذا وراء ذلك ؟! ماذا عندهم ؟! وماذا وراءهم ؟!
لكن دعاةَ الضلال والخرافة يدعون إلى هذا الباطل ،
ويحسّنون هذا الباطل ، ويزيّنون لهم هذا الباطل ؛ حتّى أوقعوهم في الشّرك بالله .
فليكن المسلمُ على حذَرٍ من ذلك ، ليلقى اللهَ على
التوحيدِ الخالص ، فإن لقيهُ مخلِصًا له توحيدَه ؛ فيُرجَى له برحمةِ أرحمِ
الراحمين الخيرُ الكثير .
جاء في الحديثِ أنّ في يوم القيامة يؤتَى برجلٍ ،
فيمدّ له تسعةٌ وتسعون سِجِلاًّ ، كلّ سجلّ مدَّ البصر ، فيقال: أتنكِر شيئًا من
هذا ؟ فيقول : لا ، فيظنّ الرّجل أنّه هلك ، فيقال : لا ظلمَ اليوم ، فيخرج بطاقة
فيها : " أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله " ، فتوضَع
البطاقة في كفّة ، والسجلاّت في كفّة ، قال : فطاشَت السجلاّت ، وثقُلت البطاقة .
[ رواه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ، وصححه ابن حبّان ، والحاكم ، والالباني ،
رحم الله الجميع ] ، كلّ هذا بفضلِ التّوحيد ، وعظيمِ شأنِه .
جعلني الله وإيّاكم ممّن أخلصَ لله توحيدَه ، ولقيَ
الله على هذا الأصلِ العظيم ، غيرَ مبدِّلٍ ولا مغيِّر ، إنّه على كلّ شيء قدير .
وصلوا ـ رحمني الله وإياكم ـ على نبينا محمّد كما
أمرنا ربنا ، جلّ وعلا .
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد .
اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ،
وسائر الصحابة والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنّا معهم برحمتك يا
أرحم الراحمين .
اللهم وفّق ولاة أمورنا خاصة ، وولاة أمور المسلمين
عامة لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال .
اللهم ارفع البأس عنا ، وعن إخواننا المسلمين في كل
مكان برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم عليك بأعدائك أعداء الملة والدين ، اللهم
انتقم للمسلمين منهم يا قوي ياعزيز .